كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: أَتَظُنُّ سَعَادَتُكُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ يُلَاحِظُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ؟ فَأَجَابَهُ الْبِرِنْسُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُلَاحَظَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ شُعُورٌ وَوِجْدَانٌ، هُوَ بَوَادِرُ تَسْبِقُ الْفِكْرَ، هُوَ مَيْلٌ فِي النَّفْسِ وَهَوًى فِيهَا كَأَنَّهُ غَرِيزَةٌ لَهَا- وَلَوْ أَنَّهُمْ لَاحَظُوا لَفَقَدُوا ذَلِكَ الْمَيْلَ وَأَضَلُّوا ذَلِكَ الْوِجْدَانَ.
هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَعِيشُ قَوْمٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِتَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ كَيْفَ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِيمَانٌ بِدِينٍ جَاءَ بِهِ وَحْيٌ سَمَاوِيٌّ، وَاعْتِقَادٌ بِإِلَهٍ يُحِبُّ الْخَيْرَ، وَحَاكِمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْفَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟.
ثُمَّ سَاقَ الْوَزِيرُ كَلَامَهُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ وَهُوَ الْكَلَامُ عَنْ نَفْسِهِ، فَشَرَحَ لِلْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُ لَوْلَا إِيمَانُهُ بِاللهِ وَبِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ لَمَا كَانَ يَخْدُمُ سُلْطَانَهُ وَحُكُومَتَهُ، وَلَمَا أَجْهَدَ نَفْسَهُ بِتَأْسِيسِ الْوَحْدَةِ الْأَلْمَانِيَّةِ، وَتَشْيِيدِ عَظَمَتِهَا، وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ الْعِيشَةَ الْخَلَوِيَّةَ فِي مَزَارِعِهِ عَلَى خِدْمَةِ الْقَيْصَرِ (الْإِمْبِرَاطُورِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ جُمْهُورِيٌّ بِالطَّبْعِ إِلَخْ. وَالشَّاهِدُ فِي كَلَامِهِ تَأْثِيرُ الْإِيمَانِ فِي الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا زِدْنَا هَذَا مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَلَاحِدَتِنَا دُعَاةِ التَّجْدِيدِ بِتَرْكِ الدِّينِ اتِّبَاعًا بِزَعْمِهِمُ الْكَاذِبِ لِأَهْلِ أُورُبَّةَ.
هَذَا وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ، وَوَصَفَ الصَّادِقِينَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِقِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ غِذَاءُ الْإِيمَانِ فَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِكَثْرَتِهِ، فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ، وَزَيَّنَ لَهُ الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ كَلِمَةٌ بَلِيغَةٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ هُنَا وَفِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ قَالَ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَلَّا يَفْتُرَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ قَلْبًا، وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ هَمًّا، وَأَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ مُجْتَمِعَةً لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَزِّعَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي خُطَبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ، وَفِي مَشَاهِدِهِ مَعَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ، وَلَطَائِفِ الْمَعَانِي، وَبَلِيغَاتِ الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ شَاغِلٌ وَإِنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ. اهـ.
{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أَطِيعُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْأَوَامِرِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى أَسْبَابِ الْفَلَاحِ فِي الْقِتَالِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَطِيعُوا رَسُولَهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ شُئُونِ الْقِتَالِ وَغَيْرِهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِكَلَامِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَالْمُنَفِّذُ لَهُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ الْقِيَادَةِ الْعَامَّةِ فِي الْقِتَالِ، فَطَاعَةُ الْقَائِدِ الْعَامِّ هِيَ جِمَاعُ النِّظَامِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الظَّفَرِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقَائِدُ الْعَامُّ رَسُولَ اللهِ الْمُؤَيَّدَ مِنْ لَدُنْهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْمُشَارِكَ لَكُمْ فِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ، كَمَا ثَبَتَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ثُمَّ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرُّمَاةَ عِنْدَمَا خَالَفُوا أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ كَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مَا نَالُوا مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمُ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ.
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي اسْتِغْرَابِهِمْ لِذَلِكَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [3: 165].
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} هَذَا النَّهْيُ مُسَاقٌ لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَبِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ، وَمُتِمٌّ لِلْغَرَضِ مِنْهُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ مَدْعَاةُ الْفَشَلِ، وَهُوَ الْخَيْبَةُ وَالنُّكُولُ عَنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الضَّعْفُ وَالْجُبْنُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِهِمَا، وَأَصْلُ التَّنَازُعِ كَالْمُنَازَعَةِ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّزْعِ، وَهُوَ الْجَذْبُ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ أَوْ لُطْفٍ كَنَزْعِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَنَزْعِ السُّلْطَانِ الْعَامِلَ مِنْ عَمَلِهِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ مَا عِنْدَ الْآخَرِ مِنْ رَأْيٍ وَيُلْقِي بِهِ- أَوْ مِنْ نَزَعَ إِلَى الشَّيْءِ نُزُوعًا إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَمْرِ يَمِيلُ إِلَى غَيْرِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَهَذَا أَظْهَرُ هُنَا.
وَأَمَّا قوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فَمَعْنَاهُ تَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ، وَتَرْتَخِي أَعْصَابُ شِدَّتِكُمْ فَيَظْهَرُ عَدُوُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ بِمَعْنَى الْهَوَاءِ، وَتُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهَا تُهَيِّجُ الْبِحَارَ، وَتَقْتَلِعُ أَكْبَرَ الْأَشْجَارِ، وَتَهْدِمُ الدُّورَ وَالْقِلَاعَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: تُسْتَعَارُ لِلدَّوْلَةِ، لِشَبَهِهَا بِهَا فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا. وَيَقُولُونَ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ، وَجَرَى أَمْرُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ. كَمَا يَقُولُونَ رَكَدَتْ رِيحُهُ أَوْ رِيَاحُهُ إِذَا ضَعُفَ أَمْرُهُ وَوَلَّتْ دَوْلَتُهُ.
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أَيْ: وَاصْبِرُوا عَلَى مَا تَكْرَهُونَ مِنْ شِدَّةٍ، وَمَا تُلَاقُونَ مِنْ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَاسْتِعْدَادِهِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، وَرَبْطِ الْجَأْشِ وَالتَّثْبِيتِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، فَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 153] وَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَلاسيما الْقِتَالِ.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ جَلَائِلِ الصِّفَاتِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الظَّفَرِ فِي الْقِتَالِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ- نَهَاهُمْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ خُصُومُهُمْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ خَرَجُوا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ مِنَ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ أَحْوَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ الْبَطَرُ كَالْأَشَرِ، وَهُمَا مَصْدَرُ بَطِرَ وَأَشِرَ (كَفَرِحَ) ضَرْبٌ مِنْ إِظْهَارِ الْفَخْرِ، وَالِاسْتِعْلَاءِ بِنِعْمَةِ الْقُوَّةِ أَوِ الْغِنَى أَوِ الرِّيَاسَةِ، يُعْرَفُ فِي الْحَرَكَاتِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَالْكَلَامِ الشَّاذِّ- وَيُفَسِّرُ اللُّغَوِيُّونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ- وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبَطَرُ: دَهَشٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ سُوءِ احْتِمَالِ النِّعْمَةِ، وَقِلَّةِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا- ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ الْبَطَرُ الطَّرَبُ، وَهُوَ خِفَّةُ أَكْثَرِ مَا يَعْتَرِي مِنَ الْفَرَحِ، وَقَدْ يُقَالُ ذَلِكَ فِي التَّرَحِ. اهـ. وَالرِّئَاءُ مَصْدَرُ رَاءَى زَيْدٌ عَمْرًا وَرَاءَى النَّاسُ مُرَآةً وَرِئَاءً- وَتُقْلَبُ الْهَمْزَةُ يَاءً فَيُقَالُ: رِيَاءٌ كَأَمْثَالِهِ- وَهُوَ بِنَاءُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَرْءُ مَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مِنْهُ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِ، وَيَعْجَبُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَبُّسًا ظَاهِرًا غَيْرَ بَاطِنِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِظْهَارُ الْحُسْنِ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ أَيْ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ وَالْإِعْجَابِ.
وَالْمَعْنَى: امْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَلَا تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي اسْتَنْفَرَهُمْ مِنْهَا أَبُو سُفْيَانَ- بَطِرِينَ بِمَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ وَنِعَمٍ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا، أَوْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللهِ- مُرَائِينَ لِلنَّاسِ بِهَا، لِيُعْجَبُوا بِهِمْ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالْغِنَى وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْمَنَعَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ- وَهُوَ الْإِسْلَامُ- بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْإِعْرَاضِ عَنْ تَبْلِيغِ دَعَوْتِهِ، وَتَعْذِيبِ مَنْ أَجَابَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُمْ وَيَحْمِيهِمْ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ حِلْفٍ أَوْ جِوَارٍ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عِلْمًا وَسُلْطَانًا، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى صِفَاتِ النَّفْسِ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ مَعَالِمَ التَّنْزِيلِ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَقْبَلُوا إِلَى بَدْرٍ، وَلَهُمْ بَغْيٌ وَفَخْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللهُمَّ فَنَصْرَكُ الَّذِي وَعَدْتَنِي» قَالُوا: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ فَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ فَارْجِعُوا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا- وَكَانَ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ- فَنُقِيمُ ثَلَاثًا فَنَنْحَرُ الْجَزُورَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَنَسْقِي الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا. فَوَافَوْهَا فَسُقُوا كُئُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقِيَانِ. فَنَهَى الله عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم. اهـ.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ بِمَا أَلْقَاهُ فِي هَوَاجِسِهِمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، لَا أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ الضُّعَفَاءَ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَأَنْتُمْ أَعَزُّ نَفَرًا وَأَكْثَرُ نَفِيرًا، وَأَعْظَمُ بَأْسًا، وَإِنِّي مَعَ هَذَا- أَوْ وَالْحَالُ أَنِّي- جَارٌ لَكُمْ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ فِيمَا يَظُنُّونَ أَنَّهَا قُرُبَاتٌ مُجِيرٌ لَهُمْ حَتَّى قَالُوا: اللهُمَّ انْصُرْ أَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَفْضَلَ الدِّينَيْنِ. اهـ.
{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} أَيْ فَلَمَّا قَرَّبَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُقَاتِلَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَصَارَ بِحَيْثُ يَرَاهُ وَيَعْرِفُ حَالَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَيَصْطَلِيَ نَارَ الْقِتَالِ مَعَهُ، نَكَصَ أَيْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَتَوَلَّى إِلَى الْوَرَاءِ وَهُوَ جِهَةُ الْعَقِبَيْنِ (أَيْ مُؤَخِّرَيِ الرِّجْلَيْنِ) وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرَائِي التَّلَاقِي، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَفَّ عَنْ تَزْيِينِهِ لَهُمْ وَتَغْرِيرِهِ إِيَّاهُمْ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ وَسْوَسَتِهِ بِمَا ذُكِرَ بِحَالِ الْمُقْبِلِ عَلَى الشَّيْءِ، وَتَرْكِهَا بِحَالِ مَنْ يَنْكُصُ عَنْهُ، وَيُوَلِّيهِ دُبُرَهُ. ثُمَّ زَادَ عَلَى هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْهُمْ، وَتَرْكِهِ هُمْ وَشَأْنُهُمْ، وَهُوَ: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ أَيْ: تَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَخَافَ عَلَيْهِمْ، وَأَيِسَ مِنْ حَالِهِمْ لَمَّا رَأَى إِمْدَادَ اللهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَلَائِكَةِ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَغْرِيرِهِ بِهِمْ قَبْلَ تَقَابُلِ الصُّفُوفِ، وَتَرَائِي الزُّحُوفِ وَبِتَخَلِّيهِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَخَرَّجَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ فِي الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَقَالَ مَا قَالَ فِي نَفْسِهِ لَا لَهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ لَهُ حَتَّى فِي خِطَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ} [59: 16] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا الْتَقَوْا، وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ- الْآيَةَ. وَمِثْلَهُ قَالَ الْحَسَنُ.
أَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ كَانُوا مُنْبَثِّينَ فِي الْمُشْرِكِينَ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَا يُغْرِيهِمْ وَيَغُرُّهُمْ، كَمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ مُنْبَثِّينِ فِي الْمُؤْمِنِينَ يُلْهِمُونَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الطَّيِّبَةِ مَا يُثَبِّتُونَ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ آية: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} [8: 12] إِلَخْ. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، وَأَوْشَكَ أَنْ يَتَلَاحَمَا فَرَّ الشَّيْطَانُ بِجُنُودِهِ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ. لِئَلَّا تَصِلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُلَابِسَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَقَضَى أَقْوَاهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَضْعَفِهِمَا، فَخَوْفُ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ إِحْرَاقِ الْمَلَائِكَةِ لِجُنُودِهِ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُقْذَفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعَوَالِمَ الرُّوحِيَّةَ الْخَفِيَّةَ كَعَوَالِمِ الْعَنَاصِرِ الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ، وَمِنْهَا مَا يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ فَيَتَأَلَّفُ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ كَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّحِدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [24: 26] {وَكَذَلِكَ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [6: 112].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجٍ، وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا قَصَّتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالَ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَنَخَرَ فِي وَجْهِهِ فَخَرَّ صَعِقًا فَقِيلَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا سُرَاقَةُ، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ تَخْذُلُنَا وَتَبْرَأُ مِنَّا؟ فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِلَخْ.
وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ مَا أَوَّلُهُ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ رَأَى رَمْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكِينَ بِقَبْضَةِ التُّرَابِ فَهَزِيمَتُهُمْ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جَارٌ لَنَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِلَخْ.
(أَقُولُ): أَمَّا الْكَلْبِيُّ فَرِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ وَأَضْعَفُهَا كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُونَ. قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ أَجْوَدُ الرِّوَايَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الثِّقَاتِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ فَرِوَايَتُهُ لِأَخْبَارِهَا مُنْقَطِعَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْوَاقِدِيُّ غَيْرُ ثِقَةٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ عَدَاوَةٌ وَحَرْبٌ سَابِقَةً فَخَافُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي أَثْنَاءِ قِتَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ فَرُئِيَ سُرَاقَةُ أَكْبَرُ زُعَمَائِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَضْمَنُ لَهُمْ مَا كَادَ يَثْنِيهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ يُثَبِّتُهُمْ وَيَقُولُ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، ثُمَّ رُئِيَ عِنْدَ تَرَائِي الْفِئَتَيْنِ هَارِبًا مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ، فَوَاللهِ مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ، فَقَالُوا: مَا أَتَيْتَنَا فِي يَوْمِ كَذَا؟ فَحَلَفَ لَهُمْ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّيْطَانُ، فَهَذَا وَاللهُ أَعْلَمُ سَبَبُ تَخْرِيجِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ رِوَايَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الَّذِي رُئِيَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ مُتَمَثِّلًا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَمَا رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَقَدَّمَهُ أَهْلُ التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَهُمْ إِلَخْ. وَتَقَدَّمَ.